الفن وعين العقل

فبراير 3, 2021

دراسة شغف “البحث عن غاية الجمال والدخول إلى أدق تفاصيل الجاذبية”

 

كيف يمكّنك الرسم من النظر إلى العالم بشكل أوضح والعيش بحضور أعمق

 

 

“إذا نظرنا بعين الحب فقط، سنتمكن من رؤية ما يراه الرسام ” هذا ما كتبه هنري ميلر في تحفته المنسية “أن ترسم يعني أن تحب مجدّدًا” 1968. لا شك أن الرسم يبني الجسر السرّي بين العين والقلب ويحوله إلى طريق ذي اتجاهين. لقد اعتدنا على الغفلة عن أغلب ما يحدث حولنا ولكن تعلم الرسم يعيد تشكيلنا لنرى العالم بشكل مختلف، لنحبه بحميمية وننتبه إلى تفاصيله التي كانت خفية عنا سابقًا ونحتفي بها. قد يكون هذا ما دفع الفنانة الرائعة ليندا باري إلى “تدريس حكي القصص المرئية” كطريقة فنية ناجعة لتعليم “الحضور ورؤية ما حولنا”.

 قبل ما يزيد عن قرن مما كتبه ميلر، وما يزيد عن قرن ونصف من طريقة باري، درس الناقد الفني الفكتوري والفيلسوف العظيم جون راسكن (8 فبراير 1819- 20 يناير 1900) سيكولوجية مساهمة الرسم في تمكيننا من رؤية العالم بشكل أزخر في دراسة رائعة ومحكمة بعنوان “مقال حول شرف دراسة الرسم والموسيقى والفوائد من ممارستها” كان يبلغ من العمر آنذاك تسعة عشر عامًا فقط. إنه تأمل جميل أتى في وقته المناسب اليوم في عصر اعتدنا فيه على “النظرة الاستهلاكية للجمال” عن طريق التصوير الذي توفره لنا كاميرات هواتفنا، صرنا أكثر ميلًا للتركيز على أنفسنا بدلًا من جمال الطبيعة اللانهائي وإغفال سحرها.  أن ترسم اليوم يعني أن تستعيد شرف وبهجة الرؤية الخاصة وسط ثقافة اعتادت النظر إلى العموميات.

 لو خرج شخصان في نزهة للمشي، الأول رسام جيد والثاني لا يمتلك أي ذوق فني. ولو ذهب الاثنان إلى ممشى أخضر، سيكون ثمة اختلاف كبير لنظرة الشخصين إلى المنظر. أحدهما سيرى ممشى وأشجارًا، ولكن فكره لن يبتعد عن خضرة الأشجار، سيرى أشعة الشمس ويشعر بتأثيرها المفرح وأن الأشجار تظلل الممشى وتجعله أبرد، سيرى أيضًا امرأةً عجوزًا ترتدي معطفًا أحمر. وهذا كل شيء!

بورتريه شخصي لجون راسكن، 1861

 ولكن ماذا سيرى الرسام؟ إن نظرته متمرسة على البحث عن غاية الجمال، للدخول في أدق تفاصيل الجاذبية. سينظر ويلاحظ كيف تنثر الشمس أشعتها المتفرقة كزخات المطر على الأوراق اللامعة في الأعلى حتى يمتلئ الهواء بضوء زمردي، وترقص الوريقات باللون الأخضر، وتتلألأ خيوط أسمك من النور على عناقيد الأشجار الملتفة في الأسفل لتضيأها بعذوبة وتجلي عنها الظلام، وتتداخل الظلال في الأشجار الداخلية حين يصل إليها الضوء الأبيض مجددًا من الخلف كزخات النجوم. وهنا وهناك يظهر غصن من حجاب الأوراق بمئات الألوان حيث تكتسي الأغصان العجوزة باللمعان، لمعان جوهر الزمرد، أو الأشنات البديعة البيضاء والزرقاء، البنفسجية والحمراء، تندمج جميعها في ثوب من البهاء يحلي الفرع الذاوِ العتيق. ثم تأتي الجذوع المجوفة والجذور الملتوية متشبثة كالثعابين بتربة الضفة المنحدرة ذات الأعشاب المتلونة بآلاف أصباغ الأزهار تتوجها أكاليل الندى الهابطة كملاك زائر يمر بقبس ذهبي على العشب المتلألئ مقبّلًا كل زهرة قبلة، قبلة، حتى تضيء الزهور الضاحكة شفاه العشب بابتسامة واحدة مشرقة. يظهر ذلك من بعيد بعيد من بين ظلال الأشجار العتيقة، كوميض برق صيفيّ على ظلمة غيوم المساء.

 كتب راسكن:

 ألا يستحق ذلك أن يُرى؟ ولكن إن لم تكن رسّامًا فستمر من الممشى الأخضر وحين تعود إلى البيت مجدّدًا لن يكون لديك أي شيء لتقوله أو تفكر به سوى أنك ذهبت إلى ذلك الممشى.

 لا يمنحنا الرسم حضورًا كاملًا في العالم فحسب ولكنه يمتد إلى دعوة لا يمكن مقاومتها لحكي الحكايات. تلك السيدة ذات المعطف الأحمر، يناقش راسكن أنها ستكون مجرد غريبة تمر بالشخص غير المتمرس في الرسم ولكن عقل الرسام سيحيطها “بكمّ هائل من التكهنات” محاولًا خلق سياق متسق مع المنظر الكلي، واضعًا فرضيات وقصصًا عديدة لتفسير من هي وما الذي جاء بها إلى هناك. يؤكد راسكن أن هذا الدافع للتكهنات الإبداعية هو الجوهر لرؤية الرسام المختلفة للعالم:

 من أكثر الظروف بساطة، كطائر على سور، أو جسر خشبي أعلى جدول ماء، أو غصن مكسور، أو طفل يلهو بماصّة، أو حوذي يرتدي عباءة، يستمد الفنّان الدهشة والتحسين والتكهن. يحدث ذلك في كل شيء، حين ترى عين العامة غيمة بيضاء، يلاحظ الفنان تدرج الضوء والظل الرائع وجمال الألوان المتداخلة، الأحمر والأرجواني والرمادي والذهبي والأبيض، وروعة تغير الأشكال، ونعومة الظل في الحدود الذائبة، وسطوع النور الهادئ، والشفافية الرقيقة، وسكينة السماء العميقة التي تطل كغيمة ثلجية ذات عينين زرقاوين. في الواقع، يكاد يكون استمتاع الرسام بتأمل الطبيعة أمرًا غير مفهوم بالنسبة لغيره. فلو قدّر لشخص لا يتحلى بالذوق الفني للرسم واستطاع لمرة واحدة أن يمتلك هذه القدرة والموهبة، فسيكون شعوره عند النظر إلى الطبيعة أشبه بشعور شخص أعمى استعاد بصره للتوّ.

كتابة: ماريا بوبوفا

ترجمة: باسمة المصباحي

رابط اللوحة: شروق، باسمة المصباحي 2015

0 تعليق

مقالات أخرى

ما تنشره في وسائل التواصل الاجتماعي قبل كتابة كتابك

ما تنشره في وسائل التواصل الاجتماعي قبل كتابة كتابك

حين يتعلق الأمر بزيادة جمهور وسائل التواصل الاجتماعي، يمر كل مؤلف بمرحلة أُطلق عليها "المنطقة الرمادية". مرحلة ما بين بداية تأليف الكتاب ونشره والتي يتخوّف منها كثير من المؤلفين. المنطقة الرمادية هي المرحلة التي تحتاج فيها لزيادة جمهورك ولكنك لا تعرف كيف تتحدث عن...

كيف تتعامل مع رفض عملك الإبداعي؟

كيف تتعامل مع رفض عملك الإبداعي؟

إن كنت تعمل بإبداع - أي بابتكار الجديد وتطبيقه - فقد اخترت بشكل من الأشكال أن تكون مستقلًا: برأيك، بأسلوبك، وبطريقة عملك؛ ولذا توقع ألّا يكون ذوقك وعملك متناسبًا مع كافة الأذواق، ولا بد أن تتعرض للرفض إمّا من عميل أو وكيل خدمة أو غيرهم. ولكن هل يعني الرفض عدم جواز...

خمس سمات تؤهلك أن تصبح كاتب أطفال ناجح

خمس سمات تؤهلك أن تصبح كاتب أطفال ناجح

ما يفوق 230 مليون كتاباً للأطفال تم بيعها في عام 2017. وما زالت كتب مثل "مذكرات طالب" و"تجعيدة في الزمن" و "أعجوبة" تتصدر قائمة الأعلى مبيعاً هذه السنة (حتى بالمقارنة مع كتب الكبار). أخبار كهذه تعد جيدة بالنسبة لك ككاتب لكتب الأطفال.لماذا؟لأن وكلاء النشر، والمحررين،...

Pin It on Pinterest

Share This